هل انتهى زمن الانتفاضات؟ قراءة في صمت الضفة رغم النزيف
في بدايات الانتفاضة الثانية، كنت طالبًا في الثانوية العامة، أدرس في مدرسة "الأمة الثانوية" بضاحية البريد. للوصول إليها، كان لزاما علي ان أخرج من بيتنا في المخيم، وأتسلل من رأس خميس، متجاوزًا الحاجز الطيّار الذي كان يُنصب ويُرفع بلا موعد، حتى أصل إلى شعفاط البلد، ومنها إلى ضاحية البريد.
كنا نحفظ كل ممر ترابي، كل فتحة بين البيوت، كل صخرة يمكن أن تختبئ خلفها إن سقطت رصاصة في غير وقتها.لم نكن أبطالًا، لكننا كنا نكبر ببطء في مدينة تُحاصر كل شيء حتى الزمن.
بعد سنوات طويلة ، زرت المخيم مجددًا. عدت إلى ذات الطريق...لم أتعرف عليه !!
الحاجز الطيّار صار معبرًا عسكريًا دائمًا، بجدران إسمنتية وأسلاك وشرطة وحواسيب وكاميرات.
الممر الذي كنا نتسلل منه في رأس خميس أغلقه جدارٌ فاصل، فاصلٌ بين ما تبقّى من المدينة وما تبقّى من الحلم. حتى المخيم تغيّر والمجتمع نفسه أُنهِك: المخدرات، البطالة، الصراعات العائلية... وكأن المعركة انفجرت إلى الداخل.في ذلك اليوم حين عدت زائرا للمخيم ، لم أحمل حجرًا، لم أصرخ، فقط نظرت إلى الجدار الذي قطع طريقي القديم، وسألت نفسي بصمت:
لماذا لا نثور اليوم، رغم أن القيد أضيق من أي وقت مضى؟
حسنا ولنجيب عن سؤال كعذا علينا اولا فهم الفروقات بين الازمنة ...
الضفة بين زمنين: لماذا لم تولد انتفاضة ثالثة؟
منذ السابع من أكتوبر، والضفة الغربية تعيش أكثر لحظاتها قتامة منذ عقود.
الاحتلال يقتحم المدن والقرى والمخيمات بلا توقف، يقتل ويعتقل ويهدم ويُرهب، حتى تجاوز عدد الشهداء الألف.
ومع ذلك، لا تُرى ملامح انتفاضة جماهيرية شاملة كما حدث عامي 1987 و2000.
ما الذي تغيّر؟
ابرز معالم التغيير من شظايا الماضي إلى جدران الحاضر
انتفاضة الحجارة (2000)
شارعٌ يصرخ: كانت الحواجز تُنصب فجأة، فيهرع الناس ملقين ما تيسر من حجارة كانها الغام محكمة.
المجتمع سيفٌ واحد: حتى الجدة العجوز كانت تفتح بابها للهاربين، والشرطة الفلسطينية تُغمض عينًا عن الثائرين.
الاحتلال عدوٌ واضح: كنا نعرف من نكره.. ومن يسرق أرضنا.
زمن الصمت (2024)
شارعٌ يغرد: الحواجز صارت معابر دائمة، ننتظر فيها كالمواشي، نُسحب كالدمى على خيوط التصاريح.
المجتمع أشلاء: الشاب الذي كان يرمي الحجارة صار يرمي "لايكات".. والشرطة الفلسطينية ترمي المقاومين في السجون.
الاحتلال صار سمسارًا: يبيعنا الخبز مقابل صمتنا، ويُقسّمنا إلى فئات: عامل، مرفوض ، ناشط "فايسبوكي".
لماذا لا تثور الضفة ؟
1. الاحتلال أقوى…والناس أضعف
-
في الانتفاضات السابقة، كان القمع شديدًا، نعم، لكنه كان يُقابَل بشارع متحد.
-
أما اليوم، فالعنف الإسرائيلي أشرس، لكن المجتمع الفلسطيني أكثر تفككًا:
ضعف نقابي، غياب قيادي، انقسام سياسي، واستنزاف يومي للأمل.
في الانتفاضات السابقة، كان القمع شديدًا، نعم، لكنه كان يُقابَل بشارع متحد.
أما اليوم، فالعنف الإسرائيلي أشرس، لكن المجتمع الفلسطيني أكثر تفككًا:
ضعف نقابي، غياب قيادي، انقسام سياسي، واستنزاف يومي للأمل.
2. دور السلطة الفلسطينية: الحارس المحلي للهدوء
-
في زمن الانتفاضة الثانية، كانت السلطة في موقع هجومي أو شبه منسحب من المشهد.
-
أما اليوم، فهي في قلب المشهد الأمني: تنسّق أمنيًا، وتقمع التحركات الشعبية.
-
كثيرون يرون أنها تشكل جدار صدّ داخلي لأي هبّة جماهيرية، خصوصًا في المدن الكبرى.
في زمن الانتفاضة الثانية، كانت السلطة في موقع هجومي أو شبه منسحب من المشهد.
أما اليوم، فهي في قلب المشهد الأمني: تنسّق أمنيًا، وتقمع التحركات الشعبية.
كثيرون يرون أنها تشكل جدار صدّ داخلي لأي هبّة جماهيرية، خصوصًا في المدن الكبرى.
3. تحولات المجتمع: الإنترنت بدل الشارع
-
الجيل الجديد يعيش في فضاء رقمي مفتوح، لكنه معزول على الأرض.
-
تغريدة، قصة، أو فيديو قد تُعبر عن الغضب، لكنها لا تبني انتفاضة.
-
بينما في الانتفاضات السابقة، كان الاحتكاك المباشر بالاحتلال يولّد الغضب الجماعي.
الجيل الجديد يعيش في فضاء رقمي مفتوح، لكنه معزول على الأرض.
تغريدة، قصة، أو فيديو قد تُعبر عن الغضب، لكنها لا تبني انتفاضة.
بينما في الانتفاضات السابقة، كان الاحتكاك المباشر بالاحتلال يولّد الغضب الجماعي.
4. الاقتصاد المشروط: العمل داخل الخط الأخضر
-
الابتزاز للآلاف من ارباب الاسر ببمن يعملون في الداخل ( قبل وخلال السابع من اكتوبر) ، ومعظمهم يربط الخبز اليومي ببطاقة التصريح الإسرائيلي.
-
اذا العلاقة تُحكمها معادلة أمنية واضحة : أي تصعيد سيؤدي لوقف التصريح... والجوع.
الابتزاز للآلاف من ارباب الاسر ببمن يعملون في الداخل ( قبل وخلال السابع من اكتوبر) ، ومعظمهم يربط الخبز اليومي ببطاقة التصريح الإسرائيلي.
اذا العلاقة تُحكمها معادلة أمنية واضحة : أي تصعيد سيؤدي لوقف التصريح... والجوع.
5. تدجين الفلسطيني وولادة "المناضل الجديد"
عبر عشرين عامًا، حوّلت إسرائيل الفلسطيني من حامل حجر إلى حامل "تصريح عمل" – سُلّمت روحه لبطاقة بلاستيكية تربّي أبناءه على الخوف من الفقر بدل الرصاص، بينما حوّلت السلطة "المقاومة" إلى هاشتاغات تُباع، وشتائم تُحذف. الفلسطيني الجديد يعرف أن صمته ثمنٌ لبقاء جسده فوق أرضٍ لم يعد يعرف اسمها.
انتفاضة خامدة تحت الركام
باي حال فان ما يحدث في الضفة اليوم ليس هدوءًا، بل قمعًا ناجحًا للغضب، بوسائل إسرائيلية وفلسطينية مشتركة.
لكن هذا لا يعني أن الانتفاضة لن تأتي. بل ربما تُولد من رحم هذا السكون... عندما يتوقف الناس عن الخوف من الخسارة، لأنهم لم يبقَ لديهم شيء ليخسروه.