في هذا التقرير الموسّع الذي يهدف إلى تسليط الضوء على مملكة أوغاريت القديمة، حضارة البحر المتوسط الغارقة في أعماق التاريخ. سنأخذكم في رحلة عبر الزمن، لاكتشاف جذور هذه المملكة، وإنجازاتها الحضارية، وأسرار لغتها المسمارية، وعلاقاتها الإقليمية، وصولًا إلى أسباب زوالها وإرثها الذي لا يزال يتردد صداه في لغات العالم.
فهرس المحتويات
توطئة
توطئة :
بين طيات الزمن العتيق، حيث تعجز الاجيال عن سَبر اغوار الماضي، تتراقص ظلال الحضارات القديمة كاشباح تهمس باسرار لم تفك رموزها بعد. هناك، في ركن منسي من ذاكرة الارض، تقبع "اوغاريت" كجوهرة البست ثوب الغموض، مدينة صغيرة احتضنها البحر والسفح، فصنعت من ضفافهما سفرا خالدا دونت فيه اولى حروف الوجود.
اوغاريت المدينة الساحلية الصغيرة التي لم تكد تذكرها المصادر القديمة إلا كجزء من شبكة تجارية وسياسية متشابكة، لكنها في الوقت ذاته كانت منبعًا للابتكار الثقافي واللغوي.
سنأخذكم اليوم في رحلة استكشافية عبر صفحات التاريخ، لنكشف النقاب عن أسرار هذه المملكة القديمة، ونتتبع خطواتها من نشأتها البسيطة إلى ازدهارها الحضاري، مرورًا بإنجازاتها في مجالات الأدب، والاقتصاد، والدين. سنستعرض في هذا التقرير الموسع كيف استطاعت أوغاريت أن تضع بصمتها الخالدة على التاريخ الإنساني، وأن تترك إرثًا لا يزال يتردد صداه في لغات العالم حتى يومنا هذا.
فلنبدأ سويًا رحلة استكشافية شيقة عبر الزمن، نستكشف فيها أصول هذه الحضارة الغامضة، ونغوص في أعماق أسرارها، لنصل في النهاية إلى فهم أوسع لدورها في تشكيل حضارتنا الإنساني
الفصل الأول: النشأة والتطور## الفصل الأول: النشأة والتطور
1. موقع تل رأس شمرا وبدايات الاستيطان
على الشاطئ الشمالي لساحل البحر المتوسط، حيث تلتقي سهول اللاذقية وجبال الأرز بأفق البحر، يرتفع تل رأس شمرا بهدوءٍ عتيق. هنا، منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد، بدأ الإنسان يرسم أولى خطوات حضارته. تشير الأبحاث الأثرية إلى أن الاستيطان الأول في أوغاريت كان بسيطاً، مؤلفاً من بيوتٍ مصنوعة من الطين والحجارة، تأوي عائلات يمتهن بعضها الصيد، وبعضها الآخر الزراعة البعلية على الأرض الخصبة المحيطة.
2. من قرية زراعية إلى مركز تجاري
مع مرور الزمن (حوالي 1800 ق.م)، شهد الموقع قفزة نوعية. تحولت القرية الصغيرة إلى مركزٍ تجاري ناشئ بفضل موقعها الاستراتيجي على خط الملاحة بين مصر وحوض الأناضول. ازدهرت طرق المراكب الصغيرة التي تنقل خشب الأرز من لبنان، وخزف البحر المتوسط، وزيت الزيتون من سهول الساحل. وُجدت مستودعات مبنية بدقة لتخزين السلع، وأسطح عالية لتجفيف الفواكه والزيوت، كما احتضن الميناء السفن الطينية التي رست لتحمل البضائع.
3. الطبقة السياسية وأصل الملكية
في هذه المرحلة، بدأت تظهر في أوغاريت طبقة اجتماعية جديدة: التجار الأثرياء وأصحاب السفن. أمام تحديات إدارة التجارة وحماية القوافل البحرية من القراصنة، نشأ دور الحاكم القوي ‘‘ملك أوغاريت‘‘. وقد دلَّت نصوص مسمارية على وجود أول ملوكٍ يحمل لقب «مليك»، أي الحاكم الأعلى. كان دور الملك مزدوجاً: قيادة الجيش البسيط لحماية المدينة والموانئ، وضبط العلاقات مع الممالك المجاورة.
4. شبكة العلاقات الإقليمية
تحالف ملوك أوغاريت مبكراً مع مصر الفرعونية، كما أبرموا اتفاقات تجارية مع الإمبراطورية الحثية في الأناضول ومدينة قورين (قبرص). تؤكد رسائل مسمارية محفوظة في قصر تل رأس شمرا تبادل الهدايا الفخارية والخشب، إضافةً إلى إرسال رُسُل دبلوماسيين لحل نزاعات حدودية.
“إن أوغاريت لم تكن جزيرة منعزلة، بل نقطة التقاء للحضارات.”
5. التحوّل الحضري وتوسّع الأسوار
مع الأهمية المتزايدة، توسّعت أسوار المدينة لتُحيط بما يزيد عن 25 هكتاراً، ومُدّت الطرق الداخلية لتربط بين القلعة والميناء والسوق العام. حُفرت قنوات لتصريف مياه الأمطار، وبُنيت خزانات تحت الأرض. أصبحت أوغاريت لا تمثل مجرد تجمع سكاني، بل نموذجاً حضرياً متكاملاً.
6. خلاصة الفصل
في هذا الفصل، شاهدنا كيف انتقلت أوغاريت من قرية زراعية بسيطة إلى مركز تجاري وسياسي مُزدهر، بفضل موقعها الفريد على البحر المتوسط واتساع شبكة علاقاتها. في الفصول القادمة، سنغوص في أسرار الأبجدية المسمارية والأدب الغني، التي شكّلت علامة فارقة في تاريخ الإنسانية.
الفصل الثاني: الأبجدية المسمارية والأدب
عُرفت أوغاريت بأنها مهد واحدة من أقدم الأبجديات في التاريخ، وهي الأبجدية الأوغاريتية، التي كُتبت بخط مسماري خاص ومُبسّط، يختلف عن الخط المسماري المستخدم في بلاد الرافدين.
الأبجدية الأوغاريتية
تتألف هذه الأبجدية من 30 حرفًا، وتُعتبر أول نظام كتابي أبجدي معروف في التاريخ، وقد كُتبت على ألواح طينية باستخدام القلم القَصَبي. ما يُميز الأبجدية الأوغاريتية أنها مثلت تطورًا ثوريًا في التاريخ اللغوي، حيث انتقلت من النظام الصوري (كالكتابة الهيروغليفية) إلى نظام يعتمد على الرموز الصوتية.
هذا الابتكار سَهّل عملية التعلم والكتابة، وسرّع من تداول المعرفة، وهو ما يُعد أحد أسباب رُقي أوغاريت ثقافيًا وحضاريًا.
الأدب الأوغاريتي
اكتُشفت في أوغاريت مكتبة ضخمة تحتوي على آلاف الألواح الطينية، تضمنت نصوصًا أدبية، دينية، فلكية، وقانونية. ومن أبرز النصوص الأدبية ملحمة "بعل وعناة" التي تُعد من أقدم الملاحم في الشرق الأدنى، وتتناول صراع الآلهة وتوازن قوى الخير والشر.
كما وُجدت ترانيم دينية، أدعية، نصوص تعليمية، ومراسلات بين ملوك أوغاريت وملوك المناطق المجاورة، ما يدل على تطور في مفهوم الدولة والبيروقراطية.
الأثر الحضاري
ساهمت هذه الكتابات في فهمنا العميق للحياة اليومية في أوغاريت، من الدين إلى الإدارة، ومن الفلك إلى الأدب، ما جعلها كنزًا أثريًا ثمينًا يوازي حضارات عظيمة كالسومريين والمصريين.
وقد أثّرت اللغة الأوغاريتية في اللغات السامية اللاحقة، بما في ذلك العبرية والفينيقية، بل ويُقال إنها ساعدت في تمهيد الطريق لولادة الأبجديات العالمية، بما في ذلك اليونانية واللاتينية.
بهذا، لم تكن أوغاريت فقط مملكة تجارية قوية، بل مركزًا فكريًا سبق عصره بأشواط، وأسهم بشكل حاسم في تطوير أدوات التعبير الإنساني والتوثيق الحضاري.
الفصل الثالث: الاقتصاد والتجارة البحرية في أوغاريت
ازدهر اقتصاد مملكة أوغاريت بفضل موقعها الجغرافي الفريد الذي جعل منها بوابة بحرية تربط حضارات المتوسط ببعضها. كانت المدينة تمتلك ميناءً نشطًا استقبل سفنًا تجارية من مصر وقبرص والحثيين وحتى اليونان، وقد وُجدت في الموقع آثار سفن ومخازن حبوب وخزائن تجارية ضخمة.
اعتمدت أوغاريت على الزراعة كركيزة أساسية لاقتصادها، حيث استغلت الأراضي الخصبة في زراعة القمح والشعير والزيتون والكروم. كما ازدهرت تربية الماشية وإنتاج الأقمشة والصناعات الجلدية والفخارية.
لكن العنصر الأبرز في اقتصادها كان التجارة الدولية. كانت المدينة تصدّر النبيذ والزيوت والمنتجات الزراعية، وتستورد المعادن والأخشاب والتوابل والأقمشة الفاخرة. وقد دلّت الألواح المسمارية التجارية المكتشفة على وجود نظام تجاري متقدّم يتضمن التعاقدات والرهون والشهادات، مما يدل على بنية اقتصادية معقّدة ومنظمة.
كما برعت أوغاريت في إدارة الضرائب وتنظيم الأسواق، ويُعتقد أنها كانت تستعمل عملة معدنية أو نظام مقايضة متقدّم. وُجدت سجلات مالية دقيقة في الأرشيف الملكي تشير إلى معاملات دولية ومعاهدات تجارية، ما يعكس قوة مملكة أوغاريت كمركز اقتصادي إقليمي مهم.
الفصل الرابع: الدين والطقوس في أوغاريت
تميّزت أوغاريت بحياة دينية ثرية ومعقدة تعكس طابعها الكنعاني العميق، حيث شكّلت المعابد والطقوس جانبًا محوريًا في حياة سكانها. وكان الدين في أوغاريت لا ينفصل عن السياسة، إذ كان الملك يُعتبر وسيطًا بين الآلهة والبشر.
كان البانثيون الأوغاريتي يضم مجموعة من الآلهة الكنعانية على رأسهم الإله الأعلى "إيل"، وزوجته الإلهة الأم "أشيرة"، والإله المحارب والمطر "بعل"، إلى جانب الإلهة العنيفة "عناة"، وإله البحر "يم"، والموت "موت". وقد مثّلت هذه الآلهة قوى الطبيعة والعناصر الأساسية للحياة.
احتلت الطقوس الدينية مكانة بالغة الأهمية، وتنوعت بين القرابين الحيوانية والذبائح الطقسية، والمواكب، والصلوات، والتراتيل، إضافةً إلى الطقوس الموسمية المرتبطة بالحصاد والمطر وتجديد الحياة. كما لعبت الكهانة دورًا محوريًا في تنظيم الممارسات الدينية، وتفسير الأحلام، والوساطة بين الناس والآلهة.
وقد كشفت الألواح الطينية عن نصوص طقسية مفصلة تتضمن تعليمات دقيقة لكيفية تقديم القرابين، وأوقات الاحتفالات، والنصوص التي تُتلى خلال الطقوس، مما يعكس تنظيمًا دينيًا دقيقًا ومؤسسيًا. وكانت بعض هذه الطقوس تُقام في معابد ضخمة مخصصة مثل معبد بعل ومعبد داجون، الذي يُعتقد أنه كان مخصصًا للإله الزراعي.
ومن المثير أن بعض الطقوس كانت تُمارس في أماكن مفتوحة، أو على أسطح المعابد، ما يوحي بعلاقة وثيقة بين الدين والطبيعة.
وتُظهر الوثائق أن بعض الآلهة كانت تُعبد بشكل مشترك بين أوغاريت ومدن كنعانية أخرى، مما يعكس تقاربًا دينيًا وثقافيًا إقليميًا.
الفصل الخامس: فنون ومعمار في أوغاريت
1. العمارة الملكية والدينية
تميّزت أوغاريت بتخطيط معماري متقدّم يدل على وعي حضاري وتنظيم إداري رفيع. فقد وُجد في تل رأس شمرا قصر ملكي ضخم يضم أكثر من مئة غرفة، إضافة إلى باحات داخلية وساحات عامة وحدائق مائية. كان القصر مشيّدًا من الحجارة المحلية ومجهّزًا بنظام صرف صحي متقدّم، ما يعكس وعيًا عمرانيًا متطورًا.
إلى جانب القصر، شُيّدت معابد ضخمة مثل معبد بعل ومعبد داجون، وقد بنيت وفق تصميمات تُمثّل قدسية المكان، مع وجود مداخل مهيبة وساحات للقرابين وأبراج للمراقبة، بعضها مطل على البحر، في إشارة إلى العلاقة بين الآلهة والطبيعة.
2. الفنون التشكيلية والنحت
قدّمت أوغاريت نموذجًا فنيًا فريدًا، يتجلّى في التماثيل الصغيرة المصنوعة من البرونز والحجر، والتي تمثل الآلهة والبشر في وضعيات تعبيرية دقيقة. تميزت هذه التماثيل ببساطتها وجمال خطوطها، وكانت تُستخدم لأغراض دينية وزخرفية.
كذلك وُجدت نقوش حجرية ورموز دينية على الجدران والألواح، تحمل تفاصيل مذهلة عن الطقوس والأساطير الأوغاريتية. وعبّرت تلك النقوش عن قدرة الفنان الأوغاريتي على المزج بين الرمزية والواقعية في التعبير عن المقدس والدنيوي.
3. الفخار والزخرفة
برعت أوغاريت في صناعة الفخار، وظهرت تقنيات متقدمة في تشكيله وتلوينه، خاصة الأواني ذات الطلاء اللامع، والزخارف الهندسية والنباتية. وقد تم العثور على أنماط فخارية تُظهر تأثرًا بثقافات أخرى، مثل القبرصية والمصرية، مما يدل على تفاعل ثقافي واسع.
4. الموسيقى والرقص
تُظهر الألواح المكتشفة إشارات إلى وجود نظام موسيقي متقدّم، استخدم في الطقوس الدينية والاحتفالات. كما تم العثور على آلات موسيقية مثل القيثارة والمزمار، مما يثبت أن الموسيقى كانت جزءًا من الحياة اليومية والدينية. وقد رافق الرقص الطقوسي بعض الشعائر، ما يعكس دور الفنون الأدائية في التعبير الديني والاجتماعي.
5. الزخرفة والنقوش المعمارية
زُيّنت بعض جدران القصور والمعابد بزخارف نافرة ونقوش معمارية رمزية، مثل شجرة الحياة، أو قرون الثور، أو الشمس المجنّحة، وهي رموز تعكس فلسفة دينية وفكرية راسخة. وقد حملت هذه النقوش دلالات وقائية وجمالية في آن.
الفصل السادس: العلاقات الدولية والصراعات
في زمنٍ كانت فيه التحالفات والمعاهدات تقرر مصير الممالك، تميّزت أوغاريت بدبلوماسية بارعة مكنتها من الصمود والازدهار لقرون في قلب منطقة متقلبة تموج بالصراعات. فعلى الرغم من حجمها المتوسط، تمكنت أوغاريت من نسج شبكة معقدة من العلاقات الدولية مع أعظم إمبراطوريات ذلك العصر، مثل مصر الفرعونية، والإمبراطورية الحثية، وبابل، وقبرص، وغيرها.
التحالفات والمعاهدات:
أظهرت الألواح المسمارية المكتشفة في أرشيف القصر الملكي رسائل ومعاهدات صداقة، تحالف، وحتّى تبادل ثقافي بين ملوك أوغاريت ونظرائهم من الملوك الحثيين والمصريين. كانت هذه الوثائق تذكر بوضوح أسماء الملوك، الشروط المتفق عليها، وأحيانًا تبادل الهدايا الفاخرة التي تراوحت بين الذهب والعاج والنبيذ والأقمشة الفاخرة.
وكان ملوك أوغاريت يبعثون سفراءهم ويحافظون على علاقات مراسلات منتظمة مع نظرائهم، مما يعكس مستوى عاليًا من الدبلوماسية والتنظيم السياسي.
التوازن بين القوى الكبرى:
أوغاريت وقفت دومًا على شعرة بين القوى الكبرى المتنافسة. في زمن سيطرة الحثيين على شمال سوريا، أظهرت أوغاريت ولاءً سياسيًا لهم، وشاركت في تحالفاتهم العسكرية. لكنها لم تقطع خيوط التواصل مع مصر وبابل، بل حاولت أن تحفظ التوازن عبر سياسة الحياد الذكي والمرونة السياسية.الصراعات والحروب:
رغم هذه الدبلوماسية، لم تكن أوغاريت بمنأى عن نيران الحروب. إذ تشير بعض النصوص إلى تعرضها لتهديدات من شعوب البحر، وهي قبائل بحرية غامضة يُعتقد أنها ساهمت في انهيار العديد من الممالك في نهاية العصر البرونزي. كما عانت المملكة من توترات مع جيرانها أحيانًا، خاصة في الفترات التي ضعفت فيها قبضة الإمبراطوريات الحامية لها.وقد لعب الجيش الأوغاريتي دورًا دفاعيًا في معظم الأحيان، مدعومًا بقوى من الحلفاء حسب مقتضى الظروف. كما كشفت بعض النصوص عن تنظيم عسكري داخلي شمل تجنيد المواطنين وتوزيعهم في وحدات بحسب اختصاصاتهم، مما يدل على وجود بنية عسكرية فعالة نسبيًا.
التجسس والمعلومات:
كشفت بعض الرسائل الملكية عن اهتمام ملوك أوغاريت بجمع المعلومات عن تحركات جيوش الجيران، وحتى عن خيانات محتملة داخل القصر. ما يدل على أن الأمن القومي كان هاجسًا يوميًا، وأنّ المعلومة كانت سلاحًا لا يقلّ أهمية عن السيف.الانهيار المفاجئ:
مع تراجع الهيمنة الحثية، وانهيار شبكات التحالف، لم تجد أوغاريت من يحميها حين اقتربت العاصفة الكبرى في أواخر القرن الثاني عشر قبل الميلاد. وكانت نهايتها نتيجة مباشرة لانهيار العلاقات الدولية التي كانت في صلب بقائها، وصعود قوى جديدة لم تعرف التحالف بل الغزو.
الفصل السابع: الدمار والزوال
لم يكن سقوط أوغاريت حدثًا مفاجئًا فحسب، بل كان لحظة مفصلية طوت صفحة حضارة ازدهرت لقرون، وخلّفت وراءها ألغازًا وأسئلة ما زال التاريخ يسعى للإجابة عنها. ففي أواخر القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وأثناء ما يُعرف بانهيار العصر البرونزي، انهارت فجأة شبكات التجارة، وسقطت ممالك بأكملها في شرق المتوسط، وكانت أوغاريت من بينها.
تشير الأدلة الأثرية والنصوص المكتشفة في تل رأس شمرا إلى أن المدينة تعرضت لتدمير عنيف ومفاجئ. فبينما كانت الرسائل لا تزال تُرسل من الميناء إلى القصر، وبينما كانت الشحنات تُحضَّر للتصدير، هاجمت قوى مجهولة المدينة، ويُعتقد أن من بينها "شعوب البحر" الغامضة التي اجتاحت سواحل المشرق في ذلك العصر.
لكنّ التدمير لم يكن فقط ماديًا، بل كان زوالًا لنظام معقّد من القيم والدين والاقتصاد والسياسة. سويت المعابد بالتراب، واحترقت الأرشيفات، وانقطعت سلاسل المراسلات الملكية. حتى أبجديتها التي كانت رائدة في زمانها، خفت صوتها، ولم تُبعث من جديد إلا بعد آلاف السنين.
ورغم أن المدينة لم تُعد إعمارها بعد الكارثة، إلا أن إرثها لم يُمحَ. فقد ظلت الأطلال تحت التراب، تحفظ سرّ حضارة لم تمت كليًا، بل دخلت في سبات طويل حتى جاء التنقيب الحديث ليوقظها.
إن دمار أوغاريت لم يكن نهاية، بل بداية لسردية أخرى: سردية البحث والاكتشاف، سردية محاولة فهم كيف يمكن لحضارة أن تبلغ أوجها، ثم تسقط فجأة، ويظل صداها يتردد عبر العصور.
الفصل الثامن: الإرث والعودة للظهور
لم تمت أوغاريت حقًا. صحيح أن ألسنة اللهب التهمت معابدها، وسكتت أقلام كتّابها فجأة، لكن إرثها ظل حيًا تحت التراب، وفي نسيج الحضارات التي تلتها. فقد أعادت الاكتشافات الأثرية في رأس شمرا منذ عام 1928 إحياء صوت مملكة نُسيت، لتعود بقوة إلى ذاكرة الإنسانية.
أبجدية أوغاريت، التي كُتبت على ألواح طينية بحروف مسمارية، أعادت رسم بدايات الكتابة الأبجدية في تاريخ البشر. فهي أول نظام كتابي يستخدم الحروف الأبجدية لا المقاطع، وأسهم في تطور الأبجديات الفينيقية ومن ثم اللاتينية والعربية.
أما الأساطير والقصائد الدينية التي عُثر عليها، فكانت أشبه بصندوق كنز ميثولوجي، تُضيء على تطور الفكر الديني في شرق المتوسط. لقد أثّرت نصوص مثل "ملحمة بعل" و"أسطورة موت" في البنية الرمزية للأديان اللاحقة، سواء في الرواية أو اللاهوت.
في العصر الحديث، أصبحت أوغاريت مرجعًا أساسيًا لفهم حضارات كنعان وسوريا القديمة، ومادة غنية للباحثين في علم الآثار، والتاريخ، والأديان المقارنة. كما شكلت الألواح المكتشفة مادة تعليمية للغويين الراغبين في تتبع بدايات التعبير الكتابي الحر.
وعلى الصعيد الشعبي، لم تغب أوغاريت عن الوجدان الثقافي السوري، فظهرت في الشعر، والمسرح، والفن التشكيلي، وكأنها تنبض من جديد في ضمير من يسعون لإحياء الهوية والحضارة.
إن أوغاريت، برغم دمارها، لم تختفِ، بل عادت في صورة الحرف، في ذاكرة النصوص، وفي حلم كل باحث عن جذور الإنسان الأول. لقد تركت مملكة البحر والآلهة والعقل، إرثًا يتحدى الزوال، ويصرّ على العودة كلما ظن الناس أنها انطفأت.

الفصل التاسع: الخاتمة والتوصيات
بعد هذه الرحلة عبر الزمن، من نشأة أوغاريت وحتى زوالها، يظهر جليًا أن هذه المملكة لم تكن مجرد نقطة على خريطة قديمة، بل كانت منارة حضارية متقدمة تركت بصمات عميقة في التاريخ الإنساني. لقد أثبتت الاكتشافات الأثرية أن أوغاريت سبقت زمنها في مجالات الكتابة، والدين، والإدارة، والفكر، ووضعت الأسس الأولى لنظام أبجدي لا يزال صداه يتردد حتى اليوم.
تُظهر أوغاريت كيف يمكن لحضارة صغيرة جغرافيًا أن تكون عظيمة في التأثير، وما زالت ألواحها الطينية تخبرنا عن العالم الذي كان، وتحفزنا على إعادة قراءة تاريخ المنطقة بروح أكثر انفتاحًا وشمولًا.
توصيات للباحثين والزوار:
-
مواصلة الحفريات الأثرية في موقع رأس شمرا، حيث تشير الأدلة إلى وجود طبقات لم تُكشف بعد، قد تحمل مزيدًا من المعلومات الثمينة عن الحياة اليومية والسياسية والدينية في أوغاريت.
-
تعزيز تعليم الأبجدية الأوغاريتية في المدارس والجامعات، كجزء من تاريخ تطور اللغات والكتابة، لما لها من قيمة فكرية وثقافية.
-
إنشاء متحف رقمي تفاعلي لأوغاريت، يتيح للزوار من حول العالم استكشاف تراثها عبر الواقع الافتراضي والوسائط التفاعلية.
-
دمج تاريخ أوغاريت في المناهج التعليمية العربية، ليس فقط كحقائق تاريخية، بل كنموذج لحضارة محلية عظيمة ساهمت في تقدم البشرية.
-
ربط السياحة الثقافية بالأبحاث، من خلال تشجيع الزيارات الأكاديمية والسياحية لموقع رأس شمرا، وإقامة مهرجانات دورية تُحيي الإرث الثقافي الأوغاريتي.
إن أوغاريت لا تزال حاضرة، لا في حجارتها فقط، بل في اللغة، والأسطورة، والذاكرة. والخاتمة ليست نهاية، بل دعوة لبداية جديدة من البحث والفهم والتقدير لإحدى أقدم الحضارات التي عرفها الإنسان.
....................................................................................................................................................
مصادر ومراجع
-
Claude Schaeffer – Ugaritica (المنشورات الأصلية لاكتشافات رأس شمرا).
-
Jean Nougayrol et al. – Le Palais Royal d'Ugarit (دراسة القصر الملكي والنصوص الأوغاريتية).
-
Michael Astour – Ugarit and the Great Powers (علاقات أوغاريت الدولية).
-
Mark Smith – The Ugaritic Baal Cycle (دراسة مفصلة عن الميثولوجيا الكنعانية).
-
K. Lawson Younger Jr. – Ancient Near Eastern History and Culture (نظرة شاملة على حضارات الشرق الأدنى).
-
Pierre Bordreuil & Dennis Pardee – A Manual of Ugaritic (دليل لتعلم اللغة الأوغاريتية).
-
موسوعة الآثار السورية – دائرة الآثار والمتاحف في سوريا.
-
د. مأمون عبد الكريم – رأس شمرا وأوغاريت: دراسات في الحضارة السورية القديمة.
-
موقع Ancient.eu (الآن World History Encyclopedia): مقالات مبسطة ومراجعة حول أوغاريت.
-
تقارير التنقيب في رأس شمرا – منشورات المعهد الفرنسي للآثار الشرقية (IFAO).