المونتيلاتو بين الحقيقة والذاكرة والارث
كتب رئيس التحرير/ احمد ابوعلي :
في زوايا الذاكرة الفلسطينية، تسكن تفاصيل صغيرة لا تُنسى... من بينها رائحة نفاذة، تنبعث من علبة صغيرة، ترافق وجوه الجدات وهنّ يمسحنها تحت الأنوف الصغيرة، وهمساتهن يسبقنها: "شمّ ياستي، هاظ بخفف الغاز".هكذا عرفه الأطفال في الانتفاضة الأولى، وهكذا ورثوا اسمه: "المونتيلاتو"
![]() |
صورة لمدهون المونثيلاتوم الحديث تعبيرية وليست لعلب المونتيلاتو الحديدية القديمة لانها غير متوفرة اليوم |
توطئة:
هذه المادة البحثية تستند بشكل أساسي إلى الذاكرة الشفوية والروايات المتناقلة في بعض المناطق الفلسطينية، خاصة في القرى والبلدات خلال فترة الانتفاضة الأولى. قد يُعرف هذا المسحوق او المدهون العطري في مناطق أخرى من فلسطين بأسماء مختلفة، وربما تختلف مكوناته أو طرق استخدامه، ولكن ما يجمعه هو حضوره كجزء من الذاكرة الشعبية في زمن المواجهة والاختناق.
أسطورة المونتولاتو : رائحة الذاكرة في زمن الغاز
خلال الانتفاضة الأولى (1987–1993)، لم يكن الناس يملكون أقنعة واقية من الغاز، ولا إسعافات متقدمة. كانوا يبتكرون من المواد المتوفرة سبلًا لتخفيف الألم. في تلك الأيام، كانت العجائز تخرج بـ"المونتيلاتو" من "النمليات" -خزائنهن القديمة- ، تدهن أنوف الأحفاد، وتردد أن هذه الرائحة "تفتح النفس" وتُخفف "الاختناق" الناتج عن استنشاق الغاز المسيل للدموع، كان يُستخدم تحديدًا بعد لحظات الرعب حول او داخل البيوت، عندما تغزو رائحة القنابل الغازية النوافذ والأبواب وتختنق القلوب قبل الرئتين.
في تلك اللحظة، كانت تخرج أسطورة القوة الناعمة " المونتيلاتو " الى الواجهة ، "ادهنوا مونتيلاتو .. شموا مونتيلاتو" .. في الحقيقة كان هو الابتكار المصنع والاكثر اقناعا من البصل رغم انه قد يكون اقل تأثيرا في واقع الامر، لكنها العلبة الحديدية بالكتابات الانجليزية وفعلها في نفوس الناس!! .
بين الرمز والدواء: المونتيلاتو في المخيلة الشعبية
لم يكن المونتيلاتو مجرد مسحوق... كان حيلة شعبية، بل مقاومة منزلية في زمن غاب فيه الدواء والعلاج. أصبح رمزًا لأيام الانتفاضة، وصورة من صور الصمود التي لا يتحدث عنها الإعلام، بل تحفظها ذاكرة الجدات ودفاتر الأحياء.
ماهو المونتيلاتو ؟
كنا نظن الا وجود لتركيبة علمية موثقة لهذا المسحوق او المدهون ، و الروايات الشعبية تشير إلى أنه مزيج عشبي عطري، قد يكون فيه مكونات من الكافور أو أعشاب برية مطحونة ممزوجة بزيت أو دهون نباتية. ربما كان يُحضّر في البيوت أو يُشترى من العطارين الذين حافظوا على بعض وصفات الجدّات.له لون يُميز بشدة: أحمر مائل إلى البرتقالي، ذو رائحة "نفاذة" لكنها غير مزعجة، ومجرد وضعه على الأنف كان يشعر المستنشق بشيء يشبه "فتح الأنفاس"، رغم أنه لا يعالج شيئًا من اثار الغازفعليا اوعلى الاقل موثقا علميا!
لكن ماهي الحقيقة التي تكشفت لاحقًا ؟
غالب الظن (بعد بعض البحث والتقصي) ، أن هذا "المونتيلاتو" الشعبي ما هو إلا الاسم المحلي لمنتج دوائي معروف عالميًا يُدعى: "مينثولاتوم" (Mentholatum) – مرهم عطري علاجي يحتوي على الكافور والمنتول، يُستخدم لتخفيف الاحتقان الأنفي والسعال، وآلام العضلات!.
ما هو "المينثولاتوم" أصلًا؟
"مينثولاتوم" هو مرهم طبي اكتُشف منذ أوائل القرن العشرين، له رائحة قوية مميزة، ويُستخدم عادة في حالات الزكام والرشح، حيث يُدهن على الصدر أو يُستنشق لتخفيف الاحتقان، وهو قريب جدًا من منتجات مشابهة مثل "Vicks VapoRub".
رغم أن استعماله في حالات الغاز لم يكن موصى به طبيًا، إلا أن رائحته الحادة أعطت شعورًا وهميًا بالراحة، وربما شكلت حاجزًا نفسيًا ضد الخوف، أو ساعدت على تقليل حدة رائحة الغاز نفسها، ولهذا استُخدم كعلاج شعبي في أزمنة النكبة والمواجهات.
بين الحقيقة والموروث الشعبي
ما بين الحقيقة الدوائية والذاكرة الشعبية، تنشأ قصص غنية بالمعنى، مثل قصة "المونتيلاتو". هو ليس مجرد مرهم، بل "طقس وقائي" في بيوت فلسطينية، ومفتاح لمشهد متكرر: أطفال ينتظرون عودة أبيهم من المواجهة، وأم تدهن "زعوط المونتيلاتو" تحت أنوفهم ليشعروا بالأمان.
اللافت اليوم أن بعض الزوار يصلون إلى مقالات في المدونات الفلسطينية عبر كلمة "مونتيلاتو"، وكأنهم يبحثون عن خيط من ماضٍ منسي، أو اسم جدّي طالما ردده وهو يخلط الرائحة بالعناية، وبالخوف.
على أي حال وفي زمن تتراجع فيه القصص أمام التكنولوجيا، تبقى أسماء مثل "المونتيلاتو" شواهد على ثقافة شعب قاوم ليس فقط بالرصاص والحجارة، بل أيضًا بالمراهم، والنباتات، وأدوات البيت البسيطة.
وإذا كان البحث عن "مونتيلاتو" اليوم يقودك إلى منتجات عالمية في الصيدليات، فإن ذاكرة الفلسطينيين ستظل تقودك إلى دار المونة، وقطع البصل وزجاجة الزيت، والحاجة أم علي التي كانت تمسح و تدهن الشفاه والانوف وتقول: "اسكت هاظ كويس للمنافس ".
مواضيع ذات صلة :
راديو "ابو بطاريات" في ليالي الانتفاضة