"نحالين: سردية الدم الذي يروي تاريخًا لا يُنسى"

نحالين ، سِفر من الدماء والذاكرة :
التسمية - من بيت الآلهة إلى بيت النحالين
التسميات التاريخية:
- العصر الكنعاني: عُرفت باسم "بيت الآلهة" تقديسًا لمعابدها.
- عصر الهكسوس: سُميت "معبد الشمس" بسبب طقوس عبادة الشمس المنتشرة.
- العصر العربي: تحوّل الاسم إلى "نحلة"، ثم "نحالين" في العهد العثماني، واختُلف في سبب التسمية:
- رأي أول: كثرة النحالين (مربي النحل).
- رأي ثانٍ: إشارة إلى "بيت الرهبان" لاشتهارها بالزهاد.
التكوين الديموغرافي:
- عام 1596م: سجل العثمانيون 40 أسرة مسلمة و16 مسيحية، يعيشون على الزراعة.
- عام 1925م: وثيقة عثمانية تذكر 94 أسرة مسلمة بأسماء الأسر المعروفة .
على اي حال لم تكن "نحالين" مجرد نقطة على خريطة التّاريخ، بل كانت مرآةً تعكس صراعًا وجوديًا بدأ منذ العصر الكنعاني. فكما تعددت أسماؤها تعددت جراحها أيضًا. فبينما كانت القرية تُنسج بيتًا للرهبان والنحالين عبر العصور، تحوّلت في القرن العشرين إلى ساحةٍ لمعركةٍ غير متكافئة: شعبٌ يحمل حجارةَ أجداده الكنعانيين في وجه آلة عسكرية غاشمة. هكذا تشابكتْ طبقاتُ الماضي مع حاضر الدم، لتُولد من رحم هذا التّاريخ الطويل مجزرة 1989، التي لم تكن حدثًا منعزلًا، بل حلقةً في مسلسلٍ بدأ باجتياح الهكسوس وانتهى بسياسات التّهجير البطيء تحت الاحتلال الإسرائيلي.

"من 'بيت الآلهة' إلى 'خليّة الدبابير' :
الأسابيع الأخيرة قبيل المجزرة كانت شاهدة على تصعيدٍ همجي من قوات الاحتلال. حيث اعتاد الجنود التوقف في سياراتهم العسكرية على أطراف القرية، وتوجيه الشتائم لأهلها بمكبرات الصوت، يرمون كلماتهم الوقحة على التلال كقنابل نفسية. ترافقت تلك الإهانات مع مداهماتٍ ليلية، ومنعٍ للتجول، وتنكيلٍ ممنهج، حتى صار الصمت خيانة، والصبر قيدًا أثقل من الرصاص.
"الفخ المنصوب: كيف نسج الاحتلال خيوط المجزرة؟"
في فجر الثالث عشر من نيسان عام 1989، وتحديدًا عند الساعة الثالثة فجرا ، كانت نحالين تستعد ليوم جديد من رمضان، لا يشبه أي يوم سبقه. كانت القرية تغطّ في سكونٍ رمضاني، بعد سحورٍ أخير ساده الخشوع والبساطة، حين بدأ أكثر من سبعمئة جندي من قوات حرس الحدود الإسرائيلية بالانتشار حولها كطوقٍ من الحديد والنار.
نُصبت الحواجز في الطرقات، وانتشرت القناصات على اسطح المنازل و التلال المشرفة، واستُكملت خيوط الكمين الكبير. في تلك اللحظات، لم يكن أحد يعلم أن فجر نحالين سيكتب بالدم، وأن ذاكرة المكان ستتغيّر إلى الأبد.
في ذات الوقت والساعة وبينما يتحضر الجنود لارتكاب جريمتهم كان خمسة من اقمارالبلدة قد استيقظوا ليتناولوا سحورهم الاخير فجر السابع من رمضان , ولينطلقوا مقبلين غير مدبرين يردون عادية الغزاة الطامعين بالجرن والزعتر , يذودون عن الرعاة وسفحهم ,يعَبدون ويرسمون قبل الرحيل الاخير بالدم , دربهم الوعر اذ انحنى فيه حشاش الارض , نتشها وزحيفها اكبارا واجلالا للعائدين المنتشين من بعد كل غزوة ...
نبض لا يُسكت: شهداء مجزرة نحالين 1989

٢. الشهيد محمد حسن خليل شكارنة "أبو عبير"
صاحب القلم والمقلاع، كانت كلماته تُلهب الحناجر، وذراعه تُلقي الحجارة كأنها آيات احتجاج. ودّع طفلته الرضيعة ليحمل اسمه جيلٌ كامل.
٣. الشهيد فؤاد يوسف محمود عوض
الشبل الذي سبق عمره، كان مقلاعه صغيرًا على الجندي، لكن قلبه فاق الجبال. في السادسة عشرة من عمره كتب وصيته بالحجارة.
٤. الشهيد صبحي محمد عطية شكارنة
الشاب الذي فهم معادلات الأرض والكرامة، اختار أن يحوّل المقلاع إلى هندسة نضال دقيقة... فسقط وهو يقاوم.
٥. الشهيد وليد محمد عبد الله صافي
آخر من يُغادر ساحة المجزرة، أول من يهرع لإغاثة الجرحى، لم يكن يحمل سلاحًا سوى سيارة وحبًا لا ينضب لأبناء شعبه، فارتقى شهيدًا بعد أسبوع من مقاومة الموت.
شهادات حية - الرواية الإنسانية
1. رواية الناجي "م. عوض":
"كنا نسمع صياح الجنود يتهددنا: "سنجعل من نحالين مقبرة!"، لكن حجارتنا كانت أقوى. رأيتُ فؤاد يسقط وهو يصرخ: "لا تخافوا!"، دماؤه اختلطت بزيتون الأرض".
2. أحد جرحى المجزرة "ع. فنون":
"أصبتُ بشللٍ تام، لكنني تعلمت أن أستخدم الكرسي المتحرك كسلاح. تزوجتُ وأنجبتُ لأننا نُبعث من جديد كل يوم".
![]() |
مقام الشهداء - نحالين |
شهادتي كطفل في صباح المجزرة :
كانت جدتي ام علي قد ايقظتنا فجرا للسحور -ربما لم نتسحر لا اذكر - لكنها ومع اول تسلل للفجر من الافق خبأتنا انا واشقائي في " دار المونه " ودار المؤونة هذه كانت في الواقع ابعد ما تكون عن مفهوم الدار كما نألفه , غرفة واحدة منفصلة قائمة بذاتها شيدت جدرانها بحجر " الطبزة " الثقيل والطين المجبول بعرق جدي ابوعلي ,
لها باب حديدي صلب بأكرة معدنية ثقيلة وخرق يتسع لمفتاحه الكبير الشبيه بمفاتيح العودة
يمكنك احيانا ان ترى من خلالها تفاصيل مشوشة للمؤونة في الدار المخيفة المعتمة - في الحقيقة كانت خالية الا من بعض شوالات الشعير والقش للغنم -
قبل ان تغلق علينا الباب وضعت لنا الجدة " مونتيلاتو" على شفاهنا وفي مقدمة انوفنا - والمونتيلاتو هذا شيء يشبه مدهون الفيكس وله رائحة النعناع واظن انه كان يستعمل لعلاج السعال , لكن ولسبب ما كان رائجا عنه ان يخفف من اثار استنشاق الغاز المسيل -
غادرت ام علي لا اعلم الى اين وتركتنا هناك , ربما خلال نصف ساعة بدأنا نستمع لاصوات اطلاق الرصاص وفي بعض الاحيان صيحات الله اكبر ,
كيف علمت الجدة ان امرا جللا سيحدث يومها , لا اعلم ولا اذكر هل هي الحشودات العسكرية طوال تلك الليلة الى ما بعد السحور ! ام هي حكمة الجدات وحدسهن ؟ لا ادري ولم أسأل !
فادي -شقيقي الاكبر- ابتدع طريقة للهروب من الدار , وضع شيئا وقف فوقه وتسلق الى كوة في جدار الغرفة تفصل بينها وبين "صيرة الغنم " وقفز من هناك بين الاغنام وخرج لا اعلم الى اين هو الاخر ,
كان معلوما عني اني اقلد شقيقي الاكبر في كل ما يفعله - او هكذا قيل لي لاحقا -في الغالب اني ترددت يومها لاني على جهلي اتذكر خوفي و بكاء شقيقي الصغيرين لكني في النهاية خرجت لا اعلم الى اين , ربما باحثا عن فادي !
كان الجو في الخارج مرعبا بحق , مليئا بالدموع والصراخ والرصاص - كانت المرة الاولى التي صارت فيها دار المونه المعتمه اكثر امنا من ضياء النهار في الخارج -
لا اذكر تماما الان كيف انتهى بي الحال في بيت الجيران لكن بعض المشاهد على ما يبدو تبقى عالقة في الوجدان مهما اجترأ عليها الزمن وتعاقبت عليها الايام ,,
احدى النساء - اظن انها عمتي - كانت تقف فوق بئر امام بيت الجيران هذا و تنوح مرددة : " ثلاثين شهيد " ( كانت الارقام في البداية متضاربة ومن هول المشاهد وكثرة الاصابات الخطيرة ظن الناس ان كثير من الجرحى شهداء فتباينت الارقام )
من امام هذا البئر كنت انظر الى مكان المواجهات المحتدم اكثر م غيره -مقام الحاج عليان في وسط القرية يبعد عنا تقريبا كيلومتر هوائي - ميزت شابا لانه بدى مميزا بحركاته وجرأته وربما بلباسه الاحمر او كانت كوفية حمراء لا اعلم ’ لكنه كان مميزا جدا في كل شيء حتى لعين القناص الذي اطلق عليه رصاصة في القلب , سقط على اثرها مقابلنا هكذا ببساطة ونحن ننظر اليه , الشبان حملوه نصف حمل فيما بدى ان اقدامه تأبى الابتعاد عن الارض حيث قاتل ,,,
لاحقا علمنا انه رياض ابن العم , ارتقى مع اربعة آخرين في ذلك الصباح من صباحات نيسان الموحشة .
بقي من ذلك الصباح رائحة الغاز، وبحة التكبير، وظلال الأجساد التي هرعت تُسعف وتُقاوم وتُودّع. مرّت السنوات، وبقيت أسماء الشهداء تتردد في الحارات وبين النعوات، في حديث الجدّات، وفي ارتجاف صوت المؤذن. مجزرة نحالين لم تكن لحظة عابرة في زمن الانتفاضة، بل جرحًا مفتوحًا على صفحة التاريخ الفلسطيني.
ولأنّ الذاكرة لا تكتمل إلا بما وثّقته العيون والعدسات وأقلام الصحفيين، نفتح هنا نافذة على أرشيف ذلك اليوم... شهادات، صور، أخبار، ومقاطع من زوايا الإعلام، تحفظ صوت الدم وهو يُطالب بالكلمة.
من الأرشيف: يوم لا يشبه الأيام
ما كُتب في الصحف وما بثته شاشات التلفزة في ذلك اليوم، لم يكن مجرد أخبار عاجلة، بل شهادات موثّقة على جريمةٍ ارتُكبت على مرأى من العالم. وقد رصدنا عددًا من المواد الأرشيفية التي وثّقت مجزرة نحالين، منها:
-
تغطية صحيفة "القدس" بتاريخ 14 نيسان 1989، والتي تصدّرت فيها المجزرة العناوين تحت وصف "مجزرة رمضان في نحالين"، متحدثة عن الشهداء والجرحى بدم بارد.
-
تقرير صحيفة السفير اللبنانية في اليوم التالي، التي حملت وصفًا مروعًا لطبيعة الهجوم العسكري، ونقلت شهادات الأهالي الذين وصفوا الجنود بـ"الصيادين يطاردون فرائسهم".
تقارير اخبارية نادرة منذ ذلك الوقت " للاسف اغلبها اسرائيلية "
ختاما :
ليست المجزرة مجرّد جرحٍ في جسد الزمن، بل هي قبسٌ من نورٍ يُحرق ذاكرة التراب. كلّما هبّت نسمات الجليل حاملةً عبير الزعتر البري، تتناثر حكايات "نحالين" كندى الصباح على أوراق الزيتون العتيق. هنا، حيث تتعانق أنفاس الشهداء الخمسة -رياض، محمد، فؤاد، صبحي، وليد- مع حجارة "الطبَـٰزة"، تُخلّد الأرض عهدًا: لا يُدفن الدم تحت رمال النسيان.
دماؤهم لم تكن مجرّد سيلان أحمر، بل حبرٌ يكتب على جبين التاريخ: "هذه ترابٌ يرفض أن يُستباح". حتّى حين تُظلم السّماء بغيوم الرصاص، يبقى دربهم المُنير شمعةً في يد كلّ طفلٍ يعبرُ الدرب ذاته، حاملًا حجرًا من جبلهم، وزيتونةً من أرضٍ تتنفّس باسمهم. فالشهادة هنا ليست نهاية، بل هي بذرةٌ تُنبئُ أن الفجر القادم سيكون من صنع أيادٍ علمتها "نحالين" كيف تحوّل الحزن إلى إرادة، والوجع إلى نشيدٍ لا يُقهر.